في حجرة صغيرة فوق سطح أحد المنازل عاشت الأرملة الفقيرة مع طفلها الصغير حياة متواضعة، يأكلان الخبز الجاف ويلبسان ما يستر جسديهما الضعيفين. ويفترشان بعض الخرق القديمة.
ومع أن ظروف الحياة كانت صعبة وطاحنة، إلا أن هذه الأسرة الصغيرة كانت تتمتع بنعمة الرضا وتمتلك القناعة التي هي كنز لا يفنى!
لكن أكثر ما كان يزعج الأم هو سقوط المطر في فصل الشتاء فالغرفة تتكون من جدران أربعة وباب خشبي. غير أنها ليست مسقوفة بسقف يحجب الأمطار وكان قد مر على الطفل أربع سنوات منذ ولادته، ولم تتعرض المدينة إلا لرخات مطر قليلة وضعيفة. أما هذه السنة فكانت تنبئ بمطر غزير!
وحين تجمعت الغيوم في الصباح وامتلأت أجواء المدينة بالسحابات الرمادية الكثيفة، أدركت الأم أنها ستواجه مع وليدها الصغير ليلة لم يشهداها من قبل.
ومع ساعات الليل الأولى جاءت اللحظة المرتقبة، ونزل المطر الشديد يجتاح المدينة كلها، فاندس الناس في بيوتهم أما الأرملة وطفلها فلهما الله!
ونظر الطفل إلى أمه نظرة حائرة، واندس في أحضانها، لكن جسد الأم وثيابها كانت غارقة في البلل! وأسرعت الأم إلى باب الغرفة فخلعته، ووضعته مائلاً على أحد الجدران، وخبأت طفلها وراء الباب لتحجب عنه سيول المطر.
ونظر الطفل إلى أمه في سعادة بريئة، وقد علت وجهه ابتسامة الرضا فقال للأم ماذا يفعل الناس الفقراء الذين ليس عندهم باب – حين يسقط عليهم المطر؟!
لقد أحس الصغير أنه ينتمي إلى طبقة الأثرياء، ففي بيتهم باب!
ما أجمل الرضا، إنه وقاية حقيقية من المرارة والتمرد والحقد والطمع ومصدر للسعادة وهدوء البال.
نفوس لا تشبع
قال الأقدمون: من قنع شبع! فمن يملك القناعة لا يشتهي شيئا فوق ما عنده، ومن لا يقنع لا يشبعه كل طعام، كل أطعمة الدنيا.
ومن الحكايات القديمة، حكاية تقول إن أحد الحكام كان يتجول ليلاً في أطراف المدينة، فسمع من يقول: «آه لو أعطاني الله كيساً من الذهب لاشتريت كل حاجاتي وحاجات أسرتي وعشت في رغد من العيش»! فلما سمع الحاكم ذلك، طرق الباب، وقدم للرجل كيس الذهب الذي تمناه، وانصرف والرجل يدعو له بالخير. فلما أغلق صاحب البيت بابه، عاد الأمير سراً، ووقف أمام الدار يسترق السمع ليرى ما سيفعل الرجل الذي تحققت أمانيه! فسمعه يقول لزوجته بكلمات مليئة بالغيظ والندم: لماذا تمنيت كيساً واحداً ولم أقل اثنين أو ثلاثة أو عشرة أكياس؟!
إن ملء كف من القناعة كما يقول الحكيم سليمان هو الوقاية من المتاعب والصراعات الطاحنة، والجري وراء الريح. فمن لا يملك القناعة، لا يشبع أبدا.
وإذا لم يجد الإنسان رضاه فيما بين يديه، فلن يجده في أي مكان آخر!
إن القناعة الحقيقية هي ثمرة القلب الشبعان، والنفس المرتوية، والحياة المقدسة.
والقناعة لها جانب إيماني، فالإنسان لا يستطيع أن يقنع بنصيبه، ما لم يكن على وعي صادق بأن الله يمنح الأرزاق بحكمة بالغة، فهو يعطينا النار التي تدفئنا، وليس النار التي تُحرقنا، ويمنحنا الماء الذي يروينا، وليس الماء الذي يُغرقنا! إن لله هدفاً في حياتنا، وهو يمنحنا كل ما يحقق هذا الهدف، ويحجب عنا كل ما يعوق مسيرتنا. وقد قيل إن ملكاً رأي بالليل حلماً مزعجاً، فقد رأي بستان القصر وقد ذبلت أزهاره وسقطت أشجاره، وماتت فيه صورة الحياة !
واقترب الملك من إحدى الأشجار، وكانت شجرة من أشجار البلوط، فسألها عن سر سقوطها، فقالت: لقد قتلني الحزن لأني لست طويلة أنا جميلة كشجرة الصنوبر، وتقدم الملك إلى شجرة الصنوبر فقالت لقد مت حزنا لأني لا أحمل عنباً لذيذاً مثل الكرمة! وقالت الكرمة للملك: لقد أصابني الهم لأني محنية ضعيفة القوام، ولست منتصبة شامخة كشجرة الخوخ! ثم التفت الملك إلى زهرة العتر فوجدها ذابلة حزينة لأنها ليست بهية كزهرة الليلك، وهذه الأخيرة حزينة لأنها ليست زاهية الألوان كزنابق الحقل. وهكذا ماتت كل الأشجار والزهور!
ونظر الملك في وسط هذا الخراب فرأى نرجسة صغيرة، تنظر إليه بوجه مضيء، فتعجب قائلاً ما حكايتك! ألم يصبك الإحباط كغيرك؟
فقالت النرجسة مطلقاً.. ولماذا؟ إنني أعلم أنك تريدني نرجسة صغيرة ولو أنك اردت أن تضع في مكاني شجرة بلوط أو زهرة ليلك لفعلت ذلك!
لكنك أردتني نرجسة صغيرة، فأنا سعيدة لأني أحقق قصدك!
ولعل كل واحد فينا يمثل هذه النرجسة الصغيرة في حديقة الله، وقد أراد الله لكل منا أن يكون في موقعه في أكمل وأنضج وأبهى صورة ممكنة، وحين يصل الإنسان إلى يقين راسخ بأنه مخلوق بصورته وهيئته ولغته ومواهبه وإمكاناته ليحقق هدف الله، فإنه يسعد بما هو فيه، ويسعى أن يكون على طريق الرضا الإلهي!!
القناعة الضارة
لكن القناعة إذا لم تكن مبنية على أساس سليم، فإنها تكون ضارة مزيفة. فمن الصور الزائفة للقناعة أن نخلط بينها وبين التراخي وسقوط الهمة، فمثلا – الطالب الذي يرضى عن درجاته الضعيفة، ليس طالباً
قنوعا، لكنه كسول مهمل.
لكن أخطر صور القناعة الزائفة هي أن يرضى الإنسان عن نفسه رضاء يعوقه عن فحص ذاته وإصلاح طريقه. فكثيراً ما يصل الرضا عن النفس إلى حد يجعل صاحبه عاجزاً حتى عن سماع صوت العقل والضمير، أو التجاوب مع الهاتف الإلهي الذي يتحدث إلى قلبه ليوجهه في مسيرة الحياة.
من الخير أن نقنع بما يقدمه الله لنا، لكنه من الشر أن نقنع بما نقدمه لله.
من الخير أن نمارس الفروض والطقوس والعبادات، لكنه من الشر أن نتكل على هذا، ونغلق آذاننا وقلوبنا عن سماع صوت الله فكثيراً ما نقدم عبادة شكلية جافة، ننصرف بعدها إلى شئوننا المادية، فلا نتواصل فيها مع إله يحبنا ونحبه، يتحدث إلى قلوبنا بصوت مسموع، فنناجيه ونطيعه. فنرى حياتنا تتغير وأرواحنا تتجه نحو أبعاد أبدية.
صرخة إنسانية
يارب
قلبي جائع لا يشبع،
رغباتي تقودني وتستعبدني،
عيني تنتقل بين المعروضات،
وما أكثر المعروضات في سوق الزيف،
جسدي مستودع للشهوة،
عيني بئر للرغبات!
يدي متلهفة لالتقاط الأشياء،
قدماي تسعيان وراء الريح!
احتاج إلى شبع حقيقي،
احتاج أن أكل خبزاً من مائدة رضاك،
فاشبعني بك،
وأملأ قلبي منك،
واغسلني من كل الزيف العالق بي.
طهرني من كل السعي الباطل،
من أطماع الجسد الفاسد،
من تيه العقل المخدوع،
من سوق الأطماع البشرية،
اغمسني في أرض الحق،
وانبتني في بستانك كيف تشاء!
أريد أن أكون زهرة في جنتك،
لا يعنيني أن أكون بين الأشجار الشامخة،
أو بين الزهور العطرة
كل ما أريده أن أحقق قصدك،
أن أحيا في دائرة رضاك،
يارب!!