خرج الرجل من بيته سائحًا في الصحراء الشاسعة، وهو لا يحمل من أملاك الدنيا سوى عصاه، وجلبابه وطعام يومه، ومخاوف الطريق الموحشة. وغربت الشمس، وأظلمت الدنيا وصمت الليل، وعوت الذئاب، فدب في قلبه الخوف، وانتابه القلق، فسعى إلى كهف من كهوف الصحراء المهجورة، فألقى بجسده في حضن الصخر. وبات ليلته، يتوسد حجرًا، ويرقد فوق حجر وما كاد الرجل يغلق عينيه، ويغيب عن وعيه، حتى رأى – فيما يرى النائم، وكأنه واقف على أرض خضراء، ينتصب فوقها سلم طويل.. طويل، يصعد في طبقات الجو العليا، ويعلو فوق الغمام، صاعدًا نحو السماء!
وإذا ملائكة من نور يصعدون ويهبطون، ويترنمون ويهتفون! وإذا بطاقات السماء مفتوحة، ومن خلفها ما لم تره عين، وما لم تسمع به أذن وفتح الرجل عينيه، فإذا به يحلم وإذا بالصحراء قاحلة كما كانت، والكهف مظلم بارد كشأنه منذ بدء الخليقة، وإذا بأصوات الملائكة قد خبت، وعاد عواء الذئاب الجائعة يتردد في أجواء القفر!
لكن شيئًا لم يتغير! فلم يعد الرجل خائفًا كما كان، ولم تعد العصا هي كل ما يملكه من حماية وعون، بل امتلأ قلبه بطمأنينة وسلام وسكون، وسرى في روحه يقين راسخ أن الله يبارك خطاه. وأن برنامج حياته، وطريق مستقبله، يرتبطان بسلم مديد، رأسه في السماء. فلا خوف من صحراء باردة مظلمة، ووحوش كاسرة جائعة، وحيات خبيثة لادغة. إن هناك خيطًا دقيقًا يربطه بالسماء، والسماء لا تلدغها الحيات، ولا يخيفها الظلام والوحوش.
ليس نجاحًا هذا الذي لا يصل الإنسان بخالقه
لقد خلق الله البشر، ووضع لهم برنامجًا إلهيًا، يتحقق فيه الهدف من وجودهم في هذه الدنيا، وهو عبادة الله وتتميم قصده في الخليفة فكل شيء صنعه الله، إنما صنعه لهدف معين، ولغرض خاص، ولا كائن عاطل لا عمل له في خطة الوجود التي رسمها الله. فأحداث الحياة وأسرارها، يديرها الله بواسطة بنى البشر، فقد وضع لكل منهم “توصيفًا وظيفيًا” دقيقًا، به يحققون ذواتهم،
وسعادتهم، وفي نفس الوقت – يحققون الخير للجميع.
فإذا حقق الإنسان في حياته خطة الله التي خلقه لها، امتلأ قلبه باليقين، والهدوء الداخلي، والسلام الراسخ. وهذا هو النجاح الحقيقي، الذي ينطوي على نجاحات أخرى كثيرة، وانتصارات دائمة ومتكررة، وتتحقق معه كل الأهداف والرغبات والأشواق والآمال الشخصية.
أما النجاح الذي لا يأتي في إطار خطة الله، ولا ترتبط جذوره بإرادة السماء، فنجاح خادع، لا يحقق سعادة الإنسان، ولا يشبع قلبه، بل قد ينه عطشًا، ويملؤوه قلقًا. إنه نجاح الذي يربح العالم كله، ويخسر نفسه، إنه نجاح يشبه مائدة شهية لمحكوم عليه بالإعدام!
روى أحدهم مثلًا فقال:
خرج الرجل الثري في رحلة من رحلات التجارة، فعهد بطفله الصغير لخادمة في القصر. فلما عاد إليه بعد فترة من الزمن، قالت الخادمة: يا سيدي هذه الثياب الثمينة التي كان ابنك يلبسها، إنها نظيفة ومرتبة، وقد صنعت له ثيابًا أخرى مطرزة ومنمقة، وأضفت إليها لمسات فنية من مهارات النساء الخبيرات، من كل ما تعلمته من فنون الحياكة والتطريز.
قال الرجل حسنًا، ولكن أين الولد؟ وأجابت الخادمة قائلة: هذا هو الشيء الوحيد الناقص من كل ما أودعته عندي. فلا أعرف على وجه اليقين أين هو، فلعله خرج وأنا مشغولة بتطريز الثياب وضل الطريق!
وهذا المثل البسيط يوضح صورة الإنسان، حين ينشغل باهتمامات جسدية متعددة، ويهمل أثمن من كل الدنيا، لقد جعل الله لنا ارواح عالية باقية إلى الأبد، وجعل للأرواح أجسادا تلبسها. لكن الله كثيرًا ما يطلب ودائعه في هذه الدنيا، فلا يجد غير الثياب!
آفاق النجاح بين يدي الله
عندما كنت صغيرًا، ذهبت مع أبي إلى قلب المدينة، ولم أكن على معرفة بأخطار الطريق، فقال أبي: إياك أن تتركني.. اجعل نظرك معلقً بي، ضع قدمك في مكان قدمي لئلا تضيع في الزحام.
لكنني لم أدرك تماما معنى هذا التحذير إذ لم أكن أعرف معنى الضياع. فانشغلت بالنظر إلى الأشياء المحيطة، وما أكثر ما يثير الصغار في دنيا المدينة الكبيرة، والحق أنني استمتعت كثيرًا بكل ما رأيت ولم أدر أنني كنت أضيع في الزحام.
ونظرت فلم أجد أبي، وسعيت إليه في كل طريق مفتوح، حتى أصابني التعب، فجلست أبكي.
وجاء أبي، كان مثلي مضطربًا ومتعبًا، لكنه لم يلمني، بل مسح من عيني الدموع، وقال في حزم من الآن ضع يدك في يدي حتى لا تضيع.
إننا نضيع في الزحام لأننا لا نقدر خطورة الضياع. ونضيع في الزحام لأن بريق الأشياء يخطف أبصارنا، ويلهينا عن مصدر الأمان. ونضيع في الزحام لأننا لا نضع أيدينا في اليد القادرة.
فإذا أردنا أن ننجح في رحلة الحياة المزدحمة، فعلينا أن نضع أيدينا في يد الله، فهو الذي يعرف الأخطار التي تحيط بالتائهين، وهو الذي يملك الحماية والنجاح لتابعيه، ولا يضيع من يده شيء، بل تنسكب منها أنهار الخير.
نجاح لا يرتبط بالسماء نجاح خادع يلمع على هامش الزمن.
إن الطيور لها آفاق تحلق فيها، فلا تستطيع أن تعلو فوقها مهما طالت أجنحتها أو قويت، لكن مركبات الفضاء التي تخطت دائرة الجاذبية الأرضية، ترتفع إلى أجواء الحرية والسمو.
ونحن بالجسد نتطلع إلى آفاق محدودة، لكن القوة الإلهية ترفع تطلعاتنا إلى خارج حدود الجسد المقيد بجاذبية الشهوات والأطماع المحدودة.
فمن يهب الإنسان هذه القوة المخلصة؟
لا أحد من بني البشر يستطيع فجميعنا مهما سمت أفكارنا، أو أشواقنا، أو مبادئنا، أو تديننا، فإننا مشدودون إلى أرض الخطيئة، تسوقنا طبيعة الشر التي فينا. فمن ينقذنا؟
لا أحد غير روح الله وحده. روح القوة المخلصة التي تنسكب في قلب الإنسان الضائع في أطماعه، فترفعه فوق أطماع الجسد، وتطلقه في عالم الروح، حيث بهجة القلب وراحة الضمير، وشبع النفس، ويقين الخلاص فهل نستيقظ؟ فنربط برنامج الحياة
بدعوة من الله لنا للخلاص، فنستلهم روح الله، وندعوه في خشوع التائبين وقناعة الزاهدين، ولهفة التائهين ليضعنا على الطريق الصحيح للحياة المرتبطة بالسماء.
صرخة إنسانية
يا رب!
امسك يدي وقدني حيثما تشاء،
فالنجاح الحقيقي هو أن أسير معك،
وأراك امامي، أخطو نحوك
واتواجد في موضع رضاك
إن آفاق النجاح التي أعرفها ضيقة
ومحدودة، وقد أجهدت جسدي،
وأوجعت روحي،
ولم احقق شبع الجسد،
أو راحة القلب
أو سلام النفس
فلتسكب قوة من روحك المغير
فتنير بصيرتي وتكشف ظلمتي،
وتنقذ روحي.
وتضعني على الطريق الصحيح
يا رب!