خرج العامل الفقير في الصباح الباكر، يسعى من أجل لقمة العيش له ولعياله الصغار وظل يعمل في الصباح إلى الضحى، والظهيرة وحتى غروب الشمس.
وفي المساء عاد الرجل مكدودا، يجر ساقية حينًا، ويجلس على حافة الطريق حينًا، ليريح قدميه المجهدتين، وأراد أن يختصر الطريق، فاتجه إلى الممر المظلم بين اسطبلات الخيل التي يملكها أغنى أغنياء المدينة.
وفي داخل الممر المظلم أدركه الإعياء، فأسند جسده النحيل إلى الحائط، ووقف يلتقط أنفاسه اللاهثة بصعوبة بالغة.
وبينما هو على هذه الحال، فاجأه صوت أجش، يصرخ صرخات مرعبة، والتف حوله عدد من الحراس الأقوياء الذين طرحوه أرضًا وانهالوا عليه ضربًا وتعذيبًا، وسمع الرجل الغني يزمجر ويهدد، ويتهمه بسرقة الخيول، ويتوعده بأشر العقاب.
وحاول الفقير المسكين أن يرد الاتهام عن نفسه دون جدوى، فقد كان صوته واهنًا ضائعًا، وصوت الحراس قويًا متجبرًا فاستسلم لصفعاتهم ودفعاتهم لجسده المكدود.
والحق يقال لقد كان شكل الرجل مثيرًا للريب، فشعره معفر، بالتراب وخطواته بطيئة حذرة، وهو يسير في الظلام، يحمل فأسًا في ساعة متأخرة من الليل، وهذه جميعها لابد أن تثير حوله الشكوك!
قال له الغني في قسوة بالغة: لابد أن أجعلك عبرة لكل اللصوص! ثم أمر أن تقطع يده! وبالطبع فقد حاول الفقير أن يسترحم الغني، أو يسترق قلبه قائلًا: إن الفقراء لا يملكون غير أيديهم، التي هي عدتهم ومؤهلاتهم ووسيلتهم للكسب، وهي رأس مالهم
وخزانتهم وقوت عيالهم!
لكن الغني لم يرحم. وتدرع الرجل آلامه، وسلم لله أمره فيما أصابه، ومن غير الله للمقهورين؟
حين انقطع رزق الرجل كعامل في المدينة، هجر كوخه، وانتقل مع زوجته وأولاده ليحيا في الصحراء، يرعى بعض الماعز عند سفح الجبل، ويحيا حياة ضيقة تتناسب وعجزه.
ومرت سنوات كثيرة، وبينما كان الرجل جالسًا أمام الكهف الذي يأويه، فوجئ بالرجل الثري يسير في ظلام الليل تحت حضن الجيل، تائهًا مجهدًا بعد أن ضل الطريق، وابتعد عن خيله وحراسه، فأسرع إليه، وأمر زوجته بإعداد الطعام، وتهيئة مكان للمبيت، واعتذر للغني عن رقة حاله وقلة طعامه، وترك الغني، وانصرف ليبيت أمام الكهف حتى الصباح وفي الصباح قام الغني واغتسل، وتناول الطعام التي قدّم إليه، وخرج يحي صاحب الدار ويشكره لما فعل، ووقف الفقير أمامه ورفع يده يرد التحية، فإذا باليد المرفوعة بلا كف!
وهنا تداعت الصور القديمة في عقل الغني الذي تذكر كل شيء عن مضيفه، فامتقع وجهه، وخاف وارتعب.
وقال الفقير في هدوء: لا تضطرب يا سيدي فلم أكن أود أن أزعجك بتذكري، فأنا رجل اعرف الله!
الغفران صعب
من الصعب أن يغفر الإنسان لمن يسيء إليه، أو يضر به، أو بأهله، أو بمصالحه أو بكرامته.
فالإنسان يميل بطبيعته إلى الانتقام، ورد الإساءة بما يفوقها.
وحين يعجز الإنسان من الانتقام المباشر، فإنه يؤجله إلى حين يستطيع، ويظل حاملات غيظه وحنقه حتى يتمكن منه في الخفاء، بالتحريض عليه، أو التشهير به، أو بالدعاء عليه لنستمطر على رأسه غضب السماء!
وهذه جميعها صور مختلفة من الانتقام، وعدم القدرة على الغفران.
والأكثر من ذلك أننا حتى لو تسامحنا، لا نستطيع أن نحب أو تقبل أو نتعامل مع من أساء إلينا!
أربعة أعداء الغفران
حين تهدأ ثورة غضبنا ممن يسيئون إلينا، فقد نفكر في الغفران والتسامح. ولكن هناك أربعة أعداء يحاربوننا، ويحاولون الحيلولة دون تسامحنا.
هؤلاء الأعداء الأربعة هم:
الكبرياء: وهي قوة هدامة تمثل العدو الأول للتسامح. فالكبرياء تؤجج الغضب وتستثيره، كلما خمدت جذوته، مدعية أن الانتقام كرامة، والتسامح هوان! إن الكبرياء تبعث في داخلنا الرغبة في الثورة من أجل استرداد كرامتنا التي أهينت، وهيبتنا التي ضاعت!
والواقع إن التسامح يزيد كرامة الإنسان ويرفع من قدره وشأنه.
الشيطان: وهو قوة هدامة خارج الإنسان، تحرضه على مقابلة الشر بالشر. وهي دعوة تلقى صدى جيدًا في قلب الإنسان الضعيف.
والشيطان يريد أن يُشعل الدنيا وغضبا، وحنقًا، وكراهية، وموتا. فكيف لا يحارب روح الحب والغفران في داخلنا.
إنه حاضر أبدًا يلقن الألسنة كلمات السخط والغضب واللعنة، ويوغر الصدور بالحنق والمعاندة والإصرار.
انتقاد المحيطين: كثيرًا ما يتعرض المتسامح لنقد شديد من المحيطين به. الذين يحرضونه على رد الإساءة، وإظهار القوة، حتى لا يصبح العوبة في يد أعدائه، أو حائطًا وطيئًا يدوسه الجميع! فإذا لم يستجب لهم اتهموه بالضعف والجين، وانعدام الكرامة.
عدم تجاوب المسيء: وهذه عقبة رابعة في طريق التسامح، فكثيرًا ما لا يتجاوب المسيء مع روح الغفران، ولا يستطيع أن يرتفع إلى مستوى المتسامح.
عوامل تساعد على الغفران:
بالرغم من صعوبة الغفران، وبالرغم من الميل الطبيعي للانتقام، فإن هناك بعض العوامل التي قد تساعد على اتخاذ موقف
إنساني أفضل، حاول أن تجد عذرًا لمن أساء إليك: فلربما يكون قد أساء إليك تحت ظروف نفسية قاسية، أو يكون قد خدعه أحد، ونقل إليه معلومات خاطئة عنك!
اهزم كبرياءك: تذكر أنك بشر ككل البشر، تصيب وتخطئ وربما أخطأت إلى آخرين واسأت إليهم من قبل بأكثر مما أسيء إليك!
تذكر أنه كان من الممكن أن تفعل ما فعله الطرف الآخر لو أنكما تبادلتها الظروف والمواقع!
اذكر أنك لست بلا خطيئة، فلا ترجم الخطاة بحجر.
غير فكرك عن التسامح
لا تظن أن التسامح ضعف، فالتسامح دليل نضج، ووعي، وضبط النفس وقوة إرادة واتساع أفق، ونظرة شمولية للحياة إن الانتقام هو سقوط في شبكة الذات أما الغفران فير العلاقة فوق الذات.
لذلك فالمظلوم حين يغفر للظالم، يكون أكثر منه قوة وارفع منه شأنًا.
اطلب من الله قوة للغفران: إن القدرة على الغفران، لا تدخل في ملكات النفس الطبيعية، لذلك نحتاج إلى قوة من السماء لتقهر فينا روح النقمة، وتملأنا بروح الغفران.
إن الله سبحانه وتعالى، هو وحده الذي يقدر أن يغفر للمخطئ إليه، ويمنحه نور شمسه وخير عطاياه، لأن طبيعة الله هي الحب والغفران، كما أن طبيعتنا في الغضب والانتقام، لذلك فهو وحده الذي يمنحنا قوة لنغفر، وننسى الإساءة أيضًا.
وليغفر الله لنا
هناك قصة عن رجل كان له خادمان، فاستدان أحد الخادمين من زميله مبلغًا ضئيلاً من المال، وفي ذات الوقت استدان الخادم الآخر من سيده مبلغًا عظيمًا.
ومرت الأيام، ولم يقدر الخادم أن يسدد لسيده ذلك المبلغ الكبير فجاء إلى السيد. وبكي، وطلب أن يسامحه ولا يلقيه في السجن فعطف السيد عليه، وسامحه بمديونيته الكبيرة، وأطلقه حرًا.
ولكن هذا الخادم، بمجرد خروجه ذهب إلى رفيقه، وطلب إليه أن يرد المبلغ الضئيل الذي اقترضه منه، فلما استرحمه ليعفيه رفض وجره مع أبنائه إلى السوق ليبيعهم مقابل دينه..
فلما علم السيد استدعى خادمه هذا. وقال له: لقد رحمتك، وتنازلت عن المبلغ الكبير الذي أخذته مني، أما كان ينبغي أن تسامح رفيقك؟
إننا نسيء إلى الله في كل يوم، حين نكسر وصاياه، ونهين شرائعه، ونتغافل عن دعوته، ونمضي في طريق ابتعادنا عنه، ولكنه سبحانه لا يحنق علينا، ولا ينتقم من الإنسان الضعيف، رغم قدرته المطلقة أن يبيد الإنسان عن وجه الأرض، لكنه على العكس يحنو علينا، ويقبل عذرنا، ويمحو آثامنا، ويضمنا إليه في حب متغاضيًا عن جهلنا وحماقتنا. لكنه وهو يغفر لنا، يود أن نغفر نحن أيضًا للمسيئين إلينا.
فإذا لم نغفر الإساءة البسيطة التي يسيء بها إلينا الآخرون، لا يغفر الله لنا الذنوب الكبيرة التي نسيء بها إليه.
أغفر.. واطلب الغفران:
إذا كنت لا تستطيع أن تغفر للآخرين إساءتهم.. فأنت تحتاج إلى قوة تساعدك وهذه القوة لا يمنحها إلا الله.
فاغسل قلبك أمام الله. اغسله من الأحقاد والنقمة، سامح وانس وارتفع فوق غضبك.
اطلب من الله أن يغفر لك ما أسأت به إليه بعصياتك عليه مرارًا بلا عدد. تذكر أن كل خطيئة تصنعها، تسيء إلى الله خالقك القدوس.
اطلب تغييرًا في القلب، حتى يمنحك الله قلبًا يغفر، واطلب أن يمتلئ قلبك من روح الله –
روح الغفران، فتحب عدوك، وتحسن لمن يسيء إليك.
صرخة إنسانية
يارب
يا من تشرق على الجميع.
بضياء وجهك وحبك.
يا من ترسل الأمطار.
وتطعم الأخيار والأشرار.
من فضل عطاياك
علمني أن أحب الجميع
وأغفر للجميع.
احتاج أن تغير قلبي الحاقد.
وطبيعتي القاسية.
فامنحني روحك القدوس.
فأحمل طبيعة حبك ورضاك.
افتح عيني على آفاق واسعة.
لأمتلئ من معرفتك.
فأكون إنسانًا جديدًا.
غير الذي كان….
يارب